أولا: التعريف اللغوي للتدبر:
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة فإننا نجد أن كلمة "تدبر" مشتقة من الفعل الثلاثي؛ (دبر) ؛ ومعناه: آخر الشيء وخَلْفه، والدُبّر: خلاف القُبُل، والتَّدبير: أن يُدبّر الإنسان أمره؛ وذلك أنه ينظر إلى ما تصير عاقبته وآخره .
ثانيا: التعريف الاصطلاحي للتدبر:
التدبر في الاصطلاح يأتي بمعاني عديدة كلها مترادفة، كما عبّر عنها المفسرون سلفا وخلفا في معرِضِ بيان معنى التدبر في القرآن الكريم، نذكر منها ما يلي:
1.التدبر بمعنى التأمل؛ باستحضار القلب عند تلاوة القرآن:
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَأَمَّا التَّأَمُّلُ فِي الْقُرْآنِ :فَهُوَ تَحْدِيقُ نَاظِرِ الْقَلْبِ إِلَى مَعَانِيهِ، وَجَمْعُ الْفِكْرِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِهِ، لَا مُجَرَّدُ تِلَاوَتِهِ بِلَا فَهْمٍ وَلَا تَدَبُّرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾{ص:29}" .
2.تدبر لطائف الخطاب القرآني، ومجاهدة النفس على العمل بأحكامه:
قال أبو بكر بن طاهر-رحمه الله-: (تَدبّر في لطائف خطابه، وطَالِب نفسكَ بالقيام بأحكامه، وقلبَـك بفهمِ مَعانيه، وسِرَّك بالإقبال عليه) .
وقال أبو حيان-رحمه الله-: (التدبر:هو التفكر في الآيات، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء)
3.التأمل والتفكر في المعاني والحِكم:
قال الخازن-رحمه الله-: (التدبر:هو تأمل معانيه، وتفكرٌ في حكمه، وتبصّر ما فيه من الآيات) .
ومن المعاصرين من عرّف التدبر بالنظر في آيات القرآن للوصول إلى معانيه ثم ما تفضي إليه من الأحكام والمعارف:
قال مساعد بن سليمان الطيار: (التدبر: هو إعمال الذهن بالنظر في آيات القرآن، للوصول إلى معانيها، ثم النظر إلى ما فيها من الأحكام والمعارف والعلوم والعمل) .
من خلال الأقوال السابقة يمكن استخلاص معنى جامع لمفهوم تدبّر القرآن الكريم
هو: " عملية تأملية شاملة لآيات القرآن الكريم، تهدف إلى تفَهُّم معانيه والعمل بهداياته، ويشترك في هذه العملية اللّسان والعقل والقلب والأعضاء، فحظّ اللّسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظّ العقل فهم المعاني، وحظّ القلب الاتّعاظ والاعتبار، وحظّ الأعضاء الائتمار والانزجار، فاللسان يرتّل، والعقل يترجم، والقلب يتّعظ، والأعضاء تعمل" .
يَـتـبـيّـن من مـفهوم الـتـدبر أنـه يـتضمَّن عدَّة أمور ينبغي مراعاته لمن رامَ الوصول الى تدبر القرآن:
1. الاستماع، ثم القراءة؛ نظرًا أو حفظًا.
2. معرفة معاني الكلمات، والتفسير ولو بشكل عام.
3. معرفة مراد الله تعالى ومقاصد الآيات من الأوامر والنواهي.
4. حضور القلب عند التلاوة، وتأثره وخشوعه.
5. الوصول للمعاني الكليّة واللطائف الدقيقة.
6. التطبيق ؛ بمجاهدة الجوارح على العمل .
ثالثا: المصطلحات والمفاهيم المقاربة لمعنى التدبر والفرق بينها:
1.الاستنباط:
هو الاستخراج، مأخوذ من "نبط" ومعناه: استخراج الخفيّ .
فالاستنباط يعني: استخراج المعاني الخفية التي تدِقّ على الأفهام من النصوص، بعد جهد وتأمُّل واستعمال وجهٍ من وجوه الدلالة عليه .
العلاقة بين الاستنباط والتدبر: فالاستنباط أخصّ من التّدبّر وأدقّ منه، والتدبر أصل للاستنباط .
2.التفسير:
مأخوذ من (الفَسْر) ويعني: البيان وكشف ما غُطِّي، يقال فسَرَ الشيءَ يفسِره بالكسر، ويفسُرُه بالضم فسرًا وفسّره: أبانه، والتشديد أعمّ .
يُعرّف التفسير: بأنه علم يُعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد ﷺَ وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحِكمِه .
الفرق بين التدبر والتفسير: أن المقصود الأصلي للتفسير هو بيان مراد كلام الله تعالى، وأما مقصود التدبر هو: الاتعاظ والاعتبار . صناعة التفسير والاستنباط تخصّ فئة محصورة وهم أهل الاجتهاد من العلماء، أما التدبر فلعامة المخاطبين، فكل مفسر أو عالم مُتدبر، وليس كل متدبر مفسر أو عالم .
3.التأويل:
مأخوذ من الأَوْل وهو الرجوع، يقال آل الشيءُ يؤُول أَوْلاً ومآلاً: رجع ، ويقال أيضا: تأوّله: فسّره ، فيكون التأويل على معنيين: أولهما: الرجوع والمآل والمصير. وثانيهما: التفسير.
ويفترق التأويل عن التدبر في: أن التدبر أعمّ من التأويل؛ وذلك لأن التدبر يتعلق بجميع القرآن الكريم محكمه ومتشابهه، كما أن المخاطبين بالتدبر جميع المكلفين، بخلاف التأويل فالمعنيون به طائفة مخصوصة من العلماء الراسخين، وأخصّ ما في التأويل؛ الحقائق الغيبية فلا يعلم تأويلها إلا الله تعالى وحده .
4.التفكّر:
التأمل، يقال فَكَرَ في الأمر فِكراً أي: أعْمَل العقل فيه، ورتّب بعض ما يُعلم ليصل به إلى مجهول .
فالتفكر: يعني إعمال العقل وتأمّله في أمر ما ليُتوصل به إلى نتيجة ما، أو حل لمشكلة معينة.
والفرق بين التدبر والتفكر: أن التدبر له معان فكرية وروحية، تتصل بمقامات التعبد والتقرب إلى الله، بخلاف "التفكر" الذي يقترب في مهامه من مقاصد المعرفة واستكشاف الدلائل والأحكام.
كما أن التفكر يكون في الآيات المتلوة والمشاهدة في الكون والنفس، بينما التدبر يتعلق في المقام الأول بالآيات المتلوة دون غيرها.
5.التأمّل:
هو التثبت، يقال: تأمّلت الشيء، أي: نظرت إليه مستثبتا له .
وعليه فالتأمل يعني: تدقيق النظر في الأمور بغرض التثبت والتحقق أو الاتعاظ والتذكر.
الفرق بين التدبر والتأمل : التأمل أعم من التدبر ، فهو يحتاج إلى طول وقت وتأنٍّ وتثبّت في الأمور ويشترط له دوام النظر، بخلاف التدبر الذي هو من عمل القلب وحده ولا يشترط فيه الديمومة ، أن التدبّر يكون في دلالة ومآلات المعاني التي تختص بالبصيرة، بينما التأمّل قد يحدث بالبصر وحده ثم يعقبه التفكّر .
نستطيع أن نقول بين التدبر، و بين التأمل و التفكر و التفسير و الاستنباط تداخل ، و كل هذه الأخيرة تقود و تهدي إليه .