بما أن التدبر يرتبط بكل جوارح الإنسان ظاهرا وباطنا، فإن آثاره كذلك تلامس كل جوانبه؛ فهناك آثار تعود على القلب، وهناك آثار تعود على اللسان والجوارح مُـمَثَّلة في السلوك والعمل.
1.آثار قلبية لتدبر القرآن الكريم
إن للتدبر آثارا كبيرة على الإنسان المسلم، وهو من أهم الوسائل للارتقاء بالفرد روحيًّا وسلوكيًّا، ونفسيًّا، وخلقيًّا؛ وتدبر كلام الله تعالى من أهم الركائز وأسبق الوسائل في صياغة الشخصية المسلمة المستقيمة؛ إذ إنَّ المتدبر يعتبِر بالقصصِ القرآني، ويوقنُ بالخبر الغيبي، وينصَاعُ لحكم الله تعالى ويعمل به في حياته وواقعه، وهذه المعاني لا تحصل لـمن لا يتدبر القرآن الكريم.
وسنذكر جملة من تلك الآثار على قلب المتدبر[ 1]:
-التأثر والبكاء من خشية الله، قال تعالى:{ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريـم:58]. وقوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا،وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا،وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}
[الإسراء:107-109] وقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:02]، أي: خافت وحذرت مخالفته، فوصفهم بالخوف والوجل عند ذكره وذلك لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم وكأنهم بين يديه[2 ].
وفي قوله تعالى:{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:23]، ففي الآية بيان لما يحصل عند سماع القرآن الكريم من التأثر لسامعيه، والاقشعرار: التقبض، يقال اقشعر جلده: إذا تقبض وتجمع من الخوف، والمعنى: انها تأخذهم منه قشعريرة[ 3].
قالت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-: (كان أصحاب الرسول ﷺَ تدمع أعينهم وتقشهر جلودهم عند سماع القرآن)[4]، وكل ذلك أثر من آثار تدبر القرآن الكريم.
-حضور القلب والعقل والوقوف عند المعاني، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، وقوله تعالى:{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} الزمر:23].
- الفرح والاستبشار عند آيات الوعد والنعيم والرضوان، رجاءً لما عند الله؛ لقوله تعالى:{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124].
- الخوف والمهابة عند آيات الوعيد والعذاب المهين والخسران؛ لأن المؤمن الصادق يعيش دائما بين الخوف والرجاء، فلا ييأس من الرحمة وإن قصّر، ولا يغتر بعمله وإن أحسن؛ قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:57-60].
- زيادة الإيمان والطمأنينة، قال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:02]، وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره وذلك لقوة إيمانهم. قال ابن كثير: (وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية: :{ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة)[ 5].
2.آثار عملية لتدبر القرآن:
المؤمن لا يقف عند مجرد السماع والتأثر، بل يتعدى ذلك إلى العمل والاستجابة لله ورسوله، وهذا أصلٌ عظيم من أصول التدبر، ومن تلك الآثار العملية نذكر مايلي:
- السجود والخضوع والذلة ، تعظيما لله تعالى وإجلالا لشأنه جل وعلا، لقوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107]
- العمل به؛ قال تعالى:{ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53]، وقد كان السلف الصالح مضرب المثل في العمل بالقرآن والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يقتدون بالنبي ﷺَ ، فعن سعد بن هشام بن عامر قال: ( سأَلتُ عائشةَ أمَّ المؤمنين فقلت: يا أُمَّ المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ﷺَ ، قالت ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن) رواه مسلم. هذا الحديث دليل على منهج النبي ﷺَ في التعامل مع القرآن، وهو التخلق بأخلاقه والعمل بأوامره[6 ].
وعن ابن مسعود-رضي الله عنه- قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) [7 ] . وهذا يدلّ على منهج النبي والصحابة رضي الله عنهم في تعلم القرآن وتدبره، أنهم كانوا يجمعون بين العلم وحسن الفهم له وحسن العمل به.
3.آثار تدبر القرآن في بناء الإيمان:
ويتجلّى ذلك في تدبر الآيات الواردة في بيان العقيدة والإيمان، بحث يتبيّن أنها قائمة على بيان ما يلي:
- بناء المعرفة والهداية: وذلك عن طريق النظر في الآيات المتلوة والآيات المشاهدة في الكون، التي تدل على وحدانية الله تعالى وتفرده بالعبادة كما قال ابن القيم: (بيان بالآيات المسموعة المتلوة، وبيان بالآيات المشهودة المرئية، وكلاهما أدلة وآيات على توحيد الله وأسمائه وصفاته وكماله، وصدق ما أخبرت به رسله عنه، ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوة إلى التفكر في آياته المشهودة ويحضُّهم على التفكير في هذه وهذه، وهذا البيان هو الذي بُعثت به الرسل وجعل إليهم وإلى العلماء بعدهم، وبعد ذلك يُضِلُّ الله من يشاء، قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:04] ، فالرسل تُبيّن، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء بعزته وحكمته)[8 ] .
-توجيه الإنسان إلى التفكر بعجائب مخلوقات الله سبحانه وتعالى، الواقعة تحت إدراك الحسّ، بادئا بأبسطها وأقربها إلى بيئة الإنسان ومحيطه كما قال تعالى:{ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ،وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:17-21].
-إمعان النظر وترديد الفكر مع وضوح الدلالة، كالنظر في الآيات ومعانيها القاطعة على استحقاق الله تعالى للعبادة ودون من سواه .
-بيان ما يتعلق بمنهج التعامل مع الغيب وحقيقة البعث، وكل ما يتعلق بقضايا الإيمان إلا وقد بينها القرآن أوضح بيان وبأصدق برهان، وبيقين قطعي الدلالة؛ بحيث لا تدع أي مجال للشك والتردد في نفس المؤمن.
4.آثار تدبر القرآن الكريم في بناء شخصية المسلم:
.زيادة الإيمان: فتدبر القرآن من أهم وسائل زيادة الإيمان، وذلك من خلال مواعظه البليغة التي تستثير المشاعر و تؤججها، فيحدث بذلك التجاوب بين الفكر والعاطفة، كما قال تعالى: :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:02]، (ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم، لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه،أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم،أو وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان)[9].
.إيجاد الشخصية المسلمة المتوازنة: إن شخصية المسلم الذي يلازم تلاوة القرآن وتدبره، تتشكل بصورة متوازنة بلا إفراط ولا تفريط، وذلك بالفهم الصحيح للقرآن كما فهمه جيل الصحابة -رضي الله عنهم-، استقامة على الوسطية والاعتدال.
.صَقْلُ المواهب وتنمية القدرات العقلية: إن مداومة التدبر للقرآن، يورث لدى صاحبه ملكة التفكير وقوة الملاحظة، وترتفع قدرته على معالجة الأمور، ويصبح عاقلا في الحكم عند اختلاف الآراء والأفكار كما قال تعالى:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر:09][10]، ولهذا كان الصحابة يستمدون من القرآن ما قد يخفى عليهم علمه، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى)[ 11]، فهذا يدل على أن تدبرهم للقرآن صَقلَ مواهبهم ونمّى قدراتهم العقلية.